Overblog
Editer la page Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

Le blog de Amani

Le blog de Amani

Des passages inspirants de la littérature et de la poésie ❤


إخوة غرباء - ميخائيل نعيمة

Publié par Amani

 إخوة غرباء 

 

يا أخاً لم تَلِده أمّي ,
ها أناذا اليوم بين ذراعيك . وها أنت بين ذراعيّ . وعناقنا عناق الراح للماء , والنور للعين , والحلم للمنام . فما أحبَّ هذا اليوم إلى قلبي وأشهاه , وما أجمله تاجاً أتوّج به دهوراً من حياتي أودعتها ذمة الزمان الذي ما خان ولن يخون .
لا يهولنّك يا أخي عَياءٌ في مَفاصلي , وشحوب في وجنتيّ , وضباب في مقلتيّ , وذهول على شفتيّ . فما أذكر ــ ولعلّ الزمان يذكر ــ كم فَلكاً قطعتُ , وكم دهراً طويت قبل أن أدركتُ هذا اليوم .
لقد نهكني السير يا أخي . نهكني حتى الموت . ولكنّ الموت ما كان أضعف منّي ساعةً مثله في هذه الساعة . فأنا , ويدي في يدك ــ يد الأخوّة الجبّارة ــ أمنع من أن تظفر مني براثن الموت وأنيابه ولو بخدش طفيف . وأنا , وقلبك نابض في قلبي نبضَ الأخوّة التي لا تُقهر , أقوى من أن يُخرس الفناء أنباضي .
تعبتُ . إي تعبتُ . إلّا أنّني ما استسلمتُ يوماً للتعب ولا يئستُ . ...
فمنذ أن حبلت السماء بالحياة فوضعت الأرضَ , ثمّ حبلت الأرض بالإنسان فوضعتنا في مفازة الوجود توأمين أعزلين إلّا من الشوق إلى المعرفة , وقالت لنا : (( امضيا في هذه المفازة وتعارفا )) ــ منذ تلك اللحظة مشينا كل واحد في سبيله . ومشت بنا الأرض في سبيلها بين النجوم تقسّم لنا الزمان أيّاماً وأعواماً , والحياة أدواراً وأعماراً , فتسوقنا من مهد إلى لحد , ومن لحد إلى مهد .
وتمادى بنا السير وشطّت بنا الدار . فإذا أنت في واد وأنا في واد . وحملتنا أرحام كثيرة , وارضعتنا أمهات كثيرات . فنسيتَني ونسيتك . فلا أنا أعرف لي أخوة إلّا الذين ولدتهم أمّي . ولا أنت تعرف لك إخوة إلا الذين ولدتهم أمّك . أمّا الشوق فيك وفيّ ــ ذلك الشوق الذي زوّدتناه الأرض يوم وضعتنا في مفازة الوجود ــ أمّا ذلك الشوق فكان يعرف ما لا نعرف . وكان يذكّرنا فما نذكر .
وإنّي , وإن غاب عني الكثير ممّا كان مني ومنك , ما نسيت يوماً أدركتني فيه عاصفة مجنونة , وكنتُ في قعر واد مظلم , والجوع قد هدّ حيلي وكاد يجفّف أمعائي . فلجأت من العاصفة إلى كهف في بطن ذلك الوادي . وإذا بك جالس هناك وفي يمينك ضمّة من نبال , وعن يسارك موقد فيه نار , وأمامك ظبي طريح وأنت تقطع من لحمه وتشوي على النار وتأكل بنهم ما بعده نهم .
كان ذلك أوّل عهدي بالنار والنبال . وإذ مدّدتُ يدي الجائعة إلى الشواء زجَرْتَني وزمجرت . فألححتُ وزمجرتُ . وكان بيننا صراع . فكويتَني بجمرة . وطعنتُك بنبلة . وسال منك دم , وسال مني دم . وامتزجت دماؤنا في بِركة واحدة . وصرعتك في النهاية , فأكلتُ من صيدك وشبعت . وخرجتُ من كهفك ونبالك في قبضتي , وصيدك في جوفي , وسرّ نارك في فكري , أمّا في قلبي فكُرهٌ لك قتّال . وعداوة لا تنام .
هكذا تلاقينا من بعد فراق . فلا أنت عرفتني . ولا أنا عرفتك .
وتلاقينا بعد أجيال . وكنتُ قد ابتدعتُ آلة أحوك بها الكساء للعراة . فجئتني أنت وبنوك وبنو بنيك وعليكم ثياب من حياكتي . وظننتكم آتين تشكرون لي جميلي . فرحّبتُ بكم أجمل الترحيب . ولكنّكم جئتم بالسيوف والقسيّ , فتركتموني وبنيّ وبني بنيّ عراة ومُثخنين بالجراح . وسلبتموني منوالي وانطلقتم .
فلا أنت عرفتني يومذاك . ولا أنا عرفتك .
ودار الزمان فإذا بك بحّار ماهر وبنّاء سفن عظيم . فجئتك لآخذ عنك فن البناء وتذليل البحار . وكنتَ كريماً فما بخلت عليّ بذلك . وبعد أعوام زحفتُ بسفني فحطّمت سفنك وتركتك ورجالك ألعوبة للأمواج وطعاماً للأسماك .
فلا أنت عرفتني يوم ذاك . ولا أنا عرفتك .
ولقد تلاقينا من بعدها مرّات بغير عدّ . وإنّي لأذكر فيما أذكر , مرة وجدتك فيها جالساً تحت شجرة من التين الهندي وفي يدك كتاب . وكنتَ الأسبق إلى اختراع فن الطباعة . ووجدتك تنشد ما في الكتاب إنشاداً وتترنّح إذ تنشد . وكان الكتاب ديواناً من الشعر , وكنتُ صاحب الديوان . فأعززتني وأكرمتني وما بقيت تعرف كيف تُظهر إعجابك بي وتقديرك لي . وكانت من بعدها حرب ما بين قومك وقومي والتقينا في حومة الوغى . فما كان منك إلّا أن سدّدتَ بندقيتك إلى صدري وصحت : (( خذها يا أبغض الناس وعدوّ الله )) .
فلا أنت عرفتني يوم ذاك . ولا أنا عرفتك .
وإنّي لأذكر حرباً أخرى كنتُ فيها طبيباً , فجاؤوني بك مهشَّم العظام , ممزَّق الجلد واللحم . وكنتَ عدوّاً . فانكببت عليك أجبر ما تحطّم من عظمك وأرتق ما تفتّق من جلدك . وما زلت بك حتى أعدتك رجلاً سويّاً قويّاً . فما كادت الحرب تنتهي وكدتَ تعود إلى بلادك حتى انكببتَ على استنباط سموم فتّاكة تنفثها في الهواء فتقضي عليّ وعلى أبناء قومي .
فلا أنت عرفتني يوم ذاك . ولا أنا عرفتك .
وإنّي لأذكر فيما أذكر أنّك سمعتني ذات يوم أحسد الحوت سابحاً في بحره . فخلقت لي سفينة أقوى من الحوت تجري في غياهب اللّجة . وركبتُ سفينتي الجديدة ورحتُ أطارد بها الحيتان في بحارها . فآنا أغوص , وآونة أعوم . وإذا بسفينة كسفينتي تجري نحوي . وإذا بك أنت ــ لا غيرك ــ تقود تلك السفينة . فما راقني أن تقاسمني البحار . لذلك دعوتك للقتال . وكان قتال . وكان أنين . وكانت بقع حمر على وجه اليمّ . لقد جمعتنا اللّجة بأعماقها السحيقة وأبعادها الهائلة . فما اتسعت لكلينا .
فلا أنت عرفتني يوم ذاك . ولا أنا عرفتك .
وإنّي لأذكر فيما أذكر أني سمعتك ذات يوم تحسد النسر يشقّ الهواء بجناحيه القويّين ويجول حرّاً في قباب الفضاء . فابتدعت لك أجنحة أين منها أجنحة النسور . وانطلقتَ في الجو بجناحيك . وانطلقتُ بجناحيَّ . فما راقك أن أقاسمك الفضاء . لذلك انقضضتَ عليّ ولا انقضاض الصاعقة . وكان نِزالٌ . وكان برق ورعد . وفي النهاية هوينا ــ أنا وأنت ــ إلى الحضيض نسرين مهشَّمَين .
ونظرتَ إليَّ بعينيكَ الحَمراوين من الغضب فما عرفتني . ونظرتُ إليك بعينيّ الملتهبتين بغضاً فما عرفتك .
وإنّي لأذكر فيما أذكر آلة عجيبة اخترعتَها لتُسمعني بها صوتك وأُسمعك صوتي وإن تكن أنت في أقاصي المشرق وأكن أنا في أقاصي المغرب . فلكَم هلّلتُ لاختراعك وكبّرت . ولكَم قلتُ في داخلي :
(( الآن نتعارف أنا وأخي التوأم . فبهذه الآلة سأسمع صوته في كلّ حين . وفي صوته سأسمع نبضات قلبه وخلجات فكره . وفي نبضات قلبه وخلجات فكره سأسمع أشواقه إليّ . ومتى سمعت اشواقه وأسمعتُه أشواقي عرفته وعرفني بدون شكّ )) .
هكذا كنت أقول في داخلي . ولكنّني أصغيت وأصغيت . وماذا عساني سمعت منك , وماذا عساك سمعت مني ؟
سمعتك تقذفني بالشتيمة تلوالشتيمة , وتنعتني بأشنع النعوت , وتصبّ عليّ صفراءك وسويداءك , وتهددني بالويل والفناء . فأسمعتك من الشتائم أمرّها وصببتُ عليك جامات صفرائي وسويدائي . وهدّدتُك بالنّار والدمار .
وهكذا تلاقينا في رحاب الأثير . وحتى في الأثير لا أنت عرفتني . ولا أنا عرفتك .
أجل . إنّي لأذكر أشياء وأشياء لا تحصى ولا تُعَدّ فعلتَها من أجلي وفعلتُها من أجلك . على أنّني ما أذكر شيئاً واحداً أذقتني حلوه إلّا أذقتك مُرّه . أو رفعتك به إلّا خفضتني به . فكأن السمّ في فمي شهد في فمك . وكأن النواح في قلبك إنشاد في أذني . وكأن ضرع الأرض لا يجود عليّ إلّا إذا جفّ عنك , وبساط الفضاء لا يتّسع لجناحيك إلّا إذا كان شَرَكاً لجناحيَّ , وأمواج البحار لا تنقاد لي إلّا إذا امتنعتْ عليك , وأوتار الأثير لا تهتزّ لأفراحك إلّا إذا ثملتْ بأحزاني . فلا أنت مني بخمر أو بخلّ . ولا أنا منك بخلّ أو بخمر .
كذلك كنتُ وإيّاك حتى أمس الدابر ــ أمسي وأمسك الأعميين .
فقد كنّا نقول ونعتقد ما يقوله ويعتقده البُكْم والعميان الذين لا يعرفون أخوّة إلّا التي تقذفها الأصلاب والأرحام : (( أنا وأخي على ابن عمّي , وانا وابن عمّي على الغريب )) .
الغريب ...
ومن هو الغريب ؟ لقد كنتُ حتى الأمس ما تعنيه تلك الكلمة . أمّا اليوم فمعناها قصيٌّ عن فهمي ووقعها ثقيل في أذنيّ . فهي والخنفشار عندي من مقلع واحد .
ذاك لأنّي اليوم غيري أمس . فما أدري أية يد ساحرة مسحت عينيّ , وأيّة نسمة قدسيّة لثمت شفتيّ . وإذا بحياتي منذ أن ولدتني الأرض حتى الآن تنكشف لي بغتة بكل خُطاها وخطاياها . وبكل تعاريجها وأسرارها . وإذا بي لا أُبصر لي أثراً في الأرض أو في البحر أو في الجوّ إلّا أبصرت بجانبه أثراً مماثلاً لك . وحينئذ أدركت ما كنت أجهل .
أدركتُ يا أخي أنّني ما خطوت خطوة في حياتي إلّا كانت يدك في يدي , وساعدك إلى ساعدي , وكتفك إلى كتفي . وأنّني ما تنفست نَفَساً إلّا كنتَ شريكي فيه , ولا فكرتُ فكراً إلّا وخاتم فكرك عليه . وإنّني حييت لا بما فيّ وحدي من حياة , بل بما فيك وفيّ من حياة . فكنت أُبصر بعينيك , وتبصر بعينيّ . وكنت أسمع بأذنيك , وتسمع بأذنيّ . وكنت أتكلّم بشفتيك , وتتكلّم بشفتيّ . وكنت أمشي برجليك , وتمشي برجليّ . وها أنذا أستغفرك جميع ذنوبي إليك ــ وما أكبرها ! فهلّا غفرت ؟
أدركتُ يا أخي أن ما من نجم أضاء في الفلك إلّا لي ولك . وما من عصفور غرّد إلّا لي ولك . وما من زهرة باحت بوجدها , أو ثمرة جادت بشهدها , أو نسمة همست سرّها , أو ديمة نثرت دُرّها إلّا لي ولك . فالأرض لنا ــ وما أجملها وأسخاها . والسماء لنا ــ وما أفسحها وأبهاها . ولنا الأخوّة التي تقهر الدهور ــ فما أغنانا , وما أقوانا !
لقد كنّا إلى اليوم أخوين غريبين . أمّا اليوم فقد عرفتك . إي , لقد عرفتك فأحببتك .
وها أنذا أُصافحك فأصافح فيك الحياة . وأُعانقك فأعانق فيك الناس أجمعين .
يا أخاً لم تَلِده أمّي .



      ميخائيل نعيمه - من كتاب صوت العالم

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :

Archives

Nous sommes sociaux !

Articles récents